ما تقدم ذكره كان في أحكام الآخرة، وأما أحكام الدنيا فإنها كما ذكر المصنف رحمه الله بعد ذكره للحديث قال: "وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه". أي: أنه كان يظن أن الله لا يقدر عليه أو شك في ذلك كما تقدَّم إيضاحه، يقول: [لكن] وهي هنا للاستدراك "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا" فالكلام السابق هو في حقِّه في الآخرة، أي: لا نقطع ولا نجزم بكفره أو ردته أو خلوده في النار .. إلى آخره، ومع أننا نقول ذلك بالنسبة لما يتعلق بالآخرة؛ لكن ذلك لا يمنعنا من معاقبته في الدنيا، وربما يُعاقب في الدنيا وهو عند الله تعالى معذور، لكن بالنسبة لأحكام الدنيا لابد من العقاب إذا أقمنا عليه الحجة وأوضجنا له الدليل، ولم يقبل ولا اهتدى، ونحن معذورون عند الله إذا عاقبناه؛ لأننا اجتهدنا وتحرينا ألا نقيم الحد والعقوبة إلا على من يستحقها، فهذا غاية اجتهادنا، وهو قد يكون معذوراً.
  1. تقام الحجة على المبتدع قدر الإمكان ثم يعامل حسب الظاهر منه

    عندما تقابلت جيوش الإيمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع جيوش الكفر والضلال من مشركي العرب ومن الروم والفرس، فإننا لا نجزم أن كلَّ واحد من أعيان تلك الجيوش قد قامت عليه الحجة واتضحت له المحجة؛ لكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا كبراءهم، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وإلى كسرى، ثم قبل القتال دعا قادة الإسلام أمثال: سعد وخالد وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم؛ دعوا قادة الكفرة إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهذا غاية ما يمكن فعله، لكن قد يُقتل من يكون معذوراً، فقد لا يفقه ولا يفهم، ولم يبلغه شيء من الدين ولا من الحق، وإنما سيق إلى المعركة كالبهيمة، وهذا يقع، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يقاتل في الدنيا أو لا تقام عليه الحدود إن كان من أهل الحدود، ثم مصيره إلى الله سبحانه وتعالى: ((وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))[الكهف:49].
    فنحن في الدنيا نعتقد أنهم كفار، ونستحلُّ دماءهم وأموالهم، وإذا كان فيهم من هو عند الله تبارك وتعالى معذور؛ فأمره إلى الله. وما قرَّرناه من أن رحمة الله سبقت غضبه لا يتنافى مع هذا؛ لأن أحكام الدنيا لابد أن تقام، ودين الله لابد أن يُنصر، ولا بد أن تُقام الحدود، ولو أننا لا نجاهد ولا نقيم الحد إلا على من علمنا يقيناً أنه في باطنه عرف الحق وبلغه، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا ما لا طاقة لنا به: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))[البقرة:286]، وإنما أمرنا أن نتخذ الأسباب، ثم بعد ذلك هؤلاء أمرهم إلى الله سبحانه.
  2. قتل المبتدع واستتابته

    ثم ذكر المصنف رحمه الله الحكمة من عقاب المبتدع فقال: [لمنع بدعته]، أي: يُعاقب لمنع بدعته.
    ثم قال: [أو أن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه].
    وهذه العبارة فيها إجمال فلابد لها من التفصيل، من ذلك أن يقال: ما حكم المبتدع؟ نقول: حكم المبتدع التفصيل، فمن المبتدعة من يقتل، ومن المبتدعة من يُهجر، بحسب الأحوال وبحسب المقالات، وكل ذلك له أصل من السلف.
    فأما قتل المبتدعة، فهذا أصلٌ مشهور قائم عند السلف، يدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، وأجمعت الأمة على استحقاقه للقتل، وأثنت على من قتله على بدعته، فمنهم مثلاً: الجعد بن درهم، وكفعل علي رضي الله تعالى عنه في قتل السبئية الذين قالوا له: أنت الله، ولم يختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك، وكذلك قتاله رضي الله عنه للخوارج، ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم عليه، لكن الأمر فيهم مختلف عما نحن فيه، فذاك قتال لا قتل، وفرق بين القتال والقتل، فالقتل لمعين، ومثاله الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، والحلاج، والقتال لجماعة، وتقدم الكلام عليه.
    والحاصل أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد، أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب؛ وقد تعرضنا فيما مضى لهذه المسألة في حكم توبة الزنديق، ورجحنا ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله وهو ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الزنديق يُقتل ولا تقبل توبته.
    والذي نريد أن نقوله: إن المبتدع يجوز أن يُقتل رأساً من غير استتابة؛ إذا كان ممن اشتهرت بدعته وظهرت، وكان في قتله مصلحة للدين وللإسلام والمسلمين.
  3. هجر المبتدع

    وهناك عقوبات يعاقب بها المبتدع هي دون القتل، وكثيراً ما تلتبس على طلاب العلم، وهي الهجر؛ وهذا أصل مشهور عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، لكن كيف يُهجرون؟ وما أنواع الهجر؟ وما الأحكام المتعلقة به؟
    للإجابة على هذه الأسئلة نلتقط هذه الدرر الثمينة من كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة، فإنه سُئل رحمه الله عن أحكام الهجر، وهو في حق المبتدع أدنى وأخفُّ من القتل، والمبتدع لا يجوز أن يوقَّر: [[من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام]].